الإفطار في حضرة ستّي آمنة | نصوص

بيروت، كانون الثاني (يناير) 1976 | Françoise Demulder

 

وُلِدتُ بعد سنوات قليلة من اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان. وعلى مدار ستّة سنوات من الوعي المتشكّل أوّلًا بأوّل، حظيت بفرصة معايشة ستّي آمنة. بالنظر إلى تعابير وجهها؛ تعرّفت إلى معاني الفقدان والغياب والاشتياق. كانت ستّي وحيدة في فلسطين، لا قوّة لها إلّا 9 أولاد وبنات، وجدّي سليم الّذي لم يطُل حضوره في الحياة كثيرًا، فقد تفرّق إخوتها وأختها بين الأردنّ وسوريا ولبنان. كانت لوعتها لفراق الإخوة بعد النكبة حاضرة بكلّ قوّة في تجاعيدها وضآلة حجمها، وفي أدويتها الكثيرة وأغانيها الحزينة.

كانت تسكن في الطابق السفليّ، يجمعنا بها الكثير من الحبّ والدفء والذكريات، ويفصلنا عنها درج عريض تركت حوافّه بعض الندوب على جبيني وأنفي، سُجِّل أحدها في رمضان عام 1983. كان الموسم صيفًا، فأرسلتني أمّي لإحضار بعض اللبن الرائب من مطبخ ستّي؛ لتعدّ منه خليط اللبن والخيار والنعنع، حافية القدمين – كعادتي - أحمل صحنًا مقعَّرًا رُسِمت عليه وردة بنفسجيّة اللون، تتوسّطها دائرة صفراء. كنت أقفز على الدرج حينما هوى الصحن من يدي وهويت معه، وتلقّيت ضربة قاسية وسط جبيني، تعثّر بسببها سير ذلك المساء الرمضانيّ لأمّي وأبي اللذين قضيا وقتًا ليس بالقصير في قسم الطوارئ، بانتظار كفّي عن البكاء من ألم الإصابة وتقطيب الجرح. لكنّ ذلك الألم لا يُقاس بألم ستّي آمنة.

لم يتبقّ على انتهاء السنة الدراسيّة آنذاك سوى أسابيع، قضيت بعضًا منها سعيدة بتلقّي الاهتمام من معلّمتي سلوى، والهدايا بعد الإصابة، وبعضها الآخر أمارس الدلال الّذي تقاسمه كرسيّ في صفّ البستان، وفراش ستّي الّذي جلست عليه جوارها أراقب علبها البلاستيكيّة المحشوّة بالأدوية الملوّنة. لم أعرف يومًا ما كانت تعانيه جسديًّا، لكنّي كنت أعرف أنّها مريضة حسرة.  روت لي واستمعت بنهَم لـ «حكايات الشاطر حسن والغولة»، و«العنزة العنيزيّة»، استمعت ولم أفهم تراويد الشوق الحزين لإخوة تفتقدهم، لكنّها خصّت حسينًا الّذي يعيش في مخيّمات اللجوء في لبنان، بفيض كريم من الدموع وتكرار الذكر. لم أكن أعرف شيئًا عن لبنان.

في رمضان الأخير الّذي شاركتنا فيه الحياة، كنت أبلغ السادسة، طالبة في الصفّ الأوّل، قصيرة القامة، كثيرة البكاء والشكوى. كانت تجذبني رائحة الخبز الساخن الّذي تعدّه أمّي، وتحمل أرغفته الكثيرة على رأسها؛ وكذا رائحة لبن ’الشمينت‘، بالعلب الصغيرة الّتي سرعان ما تنكسر بعد أن عرفتها أوّل مرّة، حينما زرت ستّي في المستشفى.

وكنت أكره مرق الدجاج المعلّب! لم تنجح كلّ إعلانات «ماجي» الّتي بثّها التلفزيون الأردنيّ، وصور الأرزّ المرتّب، والدجاج اللامع، لم تنجح في إغوائي؛ كنت أكره مرق الدجاج ولونه الأصفر، ورائحته الّتي تشبه رائحة السيلاري الّذي أمقته هو الآخر. كان يبدو لي كبودرة دواء، كريه الرائحة. لكنّ والدتي كانت تصرّ على إضافته إلى الوجبات، حتّى لو احتوت دجاجًا بلديًّا شهدنا عمليّة ذبحه على يد ’أسعد‘ قبل أن نشتريه؛ بحجّة تتلخّص في كلمة ’أطيب‘. كانت تلك مرحلة مفصليّة على مستوى اقتصاد حارتنا، حينما توفّر الدجاج ولم نعُد نحتاج إلى حمله أيّام الجمعة صباحًا، متنقّلين بالحافلات العموميّة، لاهثين صعودًا نحو بيتنا في الجبل محمّلين بالأكياس، بعد أن اشتريناه من سوق الناصرة، حيث كانت تمتدّ عشرات الأقفاص على مقربة من المسجد الأبيض. لكنّ هذا ليس أكثر من جملة اعتراضيّة. 

 

***

 

كان الرمضان الأخير لستّي آمنة في عام 1984، بدأ الحرّ يتسلّل في آخر أيّار عندما انطلق شهر الصيام، يوم عدت منتصف النهار شاكية باكية من ألم في البطن نتيجة الجوع. لم يكن ألمًا حقيقيًّا بل حجّة لمغادرة المدرسة، فقد كنت في ذلك العمر (وسنوات طوال بعدها) أدّعي الصيام، وأشرب الماء خلسة من حنفيّة الحمّام، وأختبئ أحيانًا على الدرج المؤدّي إلى فناء خلفيّ، حيث أُقِيم فرن للخبز مصنوع من الطين الأبيض؛ لآكل بعض الحلويات الّتي اشتريتها من دكّان ’سهيل‘.

في ذلك النهار، دخلت المطبخ لأجد أمّي قد بدأت تستعدّ باكرًا للإفطار، كانت تنوي إعداد المغربيّة، مفتول ’أوسم‘ العديم الطعم، الّذي لا أتناوله منذ تلك الحادثة؛ فيصطفّ جنبًا إلى جنب مع مرق الدجاج... ربّما أكنّ مشاعر سلبيّة تجاه ’أوسم‘ بشكل عامّ... من يدري؟

بقميص المدرسة الأزرق، وشعر قصير، وحجم ضئيل، وقفت إلى جانب أمّي أبرّر لها عودتي المبكّرة، وأنا أتّكئ على خزانة الطحين، وأشتكي ألم الجوع، في ما أراقبها وهي تحرّك المرق. مدّت نحوي ملعقة مليئة بالمرق، وقالت: "ذوقي إذا طيّب" – ربّما كانت تعلم أنّي أدّعي الصيام – فقلت: "صايمة". ردّت: "طيّب، ابصقيها بعدين". فتردّدت وتراجعت، ثمّ قلت ودموعي تنهمر: "بتقرّف طعمته".

كانت الطاولة المغطّاة بقشرة الخشب ’الفورمايكا‘ الخضراء اللامعة وسط المطبخ، تحيطها كراسٍ حديديّة نُجِّدت مقاعدها بالأخضر الغامق. أزاحت والدتي كرسيًّا وجلست عليه؛ فأصبحت على مستوى طولي، وقالت: "حرام نقول بقرّف؛ بلبنان في الحرب الناس أكلوا البساس، كانت البسّة تفوت تدوّر ع أكل يوكلوها". هذه هي الحرب.

كانت هذه الجملة كافية لتجعلني أتّخذ قرارًا أبديًّا بعدم تناول مغربيّة ’أوسم‘، أو مرق الدجاج، إذ أصبحت ترتبط بالحرب والجوع ولبنان. لبنان الّتي يأتي منها أقاربنا للزيارة في الصيف، وقد غابت تاركة وراءها مجموعة ثمينة من الذكريات والصور الفوتوغرافيّة. لقد علقت في رأسي الفكرة بأنّ ذلك المكان بعيد يعاني الفقر الشديد والجوع، وتمدّدت بمرور العمر لتصبح أمرًا بأنّ عليّ تقبّل أيّ طعام يُقَدَّم على المائدة؛ لأنّ فلسطينيّين كُثرًا غيري لم يحظوا أيّامًا طويلة بالطعام. وأنّ لي أقارب يعيشون هناك... وسط الحرب!

خلال سنتين، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، كانت ستّي آمنة جريحة القلب؛ فقد تمسّكت بصور شاهدتها عبر نشرات الأخبار، جثث منتشرة في الشوارع، ونساء يلطمن وجوههنّ، كانت الولولات الهادئة جزءًا من ممارستها اليوميّة. كانا آخر عامين قبل وفاتها.

في آخر رمضان عاشته بيننا، كنّا – 9 أطفال لعمّي وأبي - نتحلّق فجرًا في غرفتها لتناول السحور. صينيّة الطعام الألمنيوم الفضّيّة رافقت تلك الليالي طويلًا، وفي المساء كنت أقف جوار أمّي وهي تُعِدّ الشوربة بمرق الدجاج الجاهز، تتبدّل تضاريس وجهي سريعًا حين أشمّ رائحته، وأكاد أبكي. 

 

***

 

لأعوام بعد وفاتها، كانت ستّي آمنة محاصرة في ذهني، أستعيد بكاءها ولوعتها والتراويد الّتي كانت تغنّيها شوقًا وحسرة. يحين الموعد فأجلس في مكان صغير قرب مائدة الإفطار أتجنّب الشوربة.

غادرت ستّي عالمنا في العشرين من آذار، وأصبحنا من بعدها نتناول الإفطار برفقة عائلة عمّي في مطبخهم الكبير، نستمع إلى ’أبو جرير‘ وهو يردّد بعض الأدعية عبر «صوت إسرائيل»، وتستجيب ملاعقنا لنداء الإفطار المنبعث من الراديو.

كانت لستّي آمنة قدرة عظيمة على حفظ القصص الشعبيّة وسردها على مسامعنا، تغلّبت على سمير غانم وفطّوطة، ونيلّلي وفوازيرها، وياسر العظمة ومراياه. أمامها على حصيرة تتوسّط غرفة نوم، كانت تضع صينيّة مملوءة بالزلابية وأصابع زينب المحشوّة بالسمسم. كان الجلوس جوارها متعة، واحتضانها دفئًا، والشكوى إليها فرجًا.

بعد رحيلها لم تعُد الحكايات وجهتي؛ لأنّ عمّتي الّتي ورثت قدرة السرد صارت تختصر الإثارة. كبرتُ وصرت أجيد لعب الورق، بدأ رمضان يزحف نحو الربيع ثمّ الشتاء. الجميع يتلكّؤون في مغادرة الطاولة بعد الإفطار، وأنا أركض نحو بيتنا هربًا من ورديّتي في جلي الصحون، وطمعًا في ألّا يشاركني أحد إخوتي حلوى «إيچوزي»، الّتي لا تزال مفضّلتي حتّى اليوم. وصرت أتابع فوازير شريهان.

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن»  والماجستير في «ثقافة السينما».